جمال إدريس يقدّم قراءة لأطفال شجرة الجاكَراندا للإيرانية سحر ديليجاني رواية بلون البنفسج تأبى النسيان
جاءها المخاضُ في سجنِ “إيفن” الإيراني في طهران ظهيرة يومٍ ساخنٍ صيفَ عام ١٩٨٣. وضعتها أنثى. بعد ٤٥ يوماً، وإعمالاً لقوانين السجن، حان وقت الفطام وإبعاد الرضيعة عن حضن أمّها السجينة. كانت “الرضيعة سحر ديليجاني” محظوظة، فقد سلمتها السلطات إلى جدِّها وجدّتها لرعايتها، مع شقيقِها الذي يكبرها بعامين. بعدما يقرب من عامٍ أطلق سراح الأم. وبعد عامٍ لاحق أطلق سراح الأب، وكان أيضاً من نزلاء السجن نفسه. في منتصف التسعينات غادرت الأسرةُ الصغيرة إيران مهاجرةً إلى الولايات المتحدة، حيث نشأت “سحر” وكبرت وكانت تكتب الشِّعرَ ثم التحقت بجامعة “كاليفورنيا – بيركلي” لدراسة الأدب المقارن وألّفت ثلاث روايات لم تنشر، ونشرت بعض مقالات و قصصاً قصيرة. ولم تكن ولادتها في سجن إيفن، وأسباب وخلفيات وتداعيات تلك الحقيقة المسجلة في أوراقها الثبوتية، بعيدة أبداً عن كل ماكتبت ولم ينشر، أو كتبت ونشر في دوريات وصحف أدبية أمريكية. في العام ٢٠٠٦ إتخذت ”سحر” قراراً أن تروي “حكايات” عائلتها وأسباب ووقع كونها “من مواليد سجن إيفن”، فشرَعت في كتابة رواية “أطفال شجرة الجاكراندا” التي صدرت طبعتها الأولى في٢٤ أبريل/نيسان ذلك العام، وطبعتها الثانية في ١٨ يونيو/حزيران ٢٠١٣ (عن دار نشر أتريا Atria Books في نيويورك)، لتباع في ٧٠ دولة وتترجم إلى ٢٥ لغة، وتصدرت قائمة أفضل المبيعات في سوق النشر باللغة الإنجليزية.
“الجاكَراندا” شجرةٌ استوائية سريعة النمو وتزرع للظلّ والزينة في الشوارعِ وفي الحدائق العامة، تتميز بأوراقها المتطاولة ذات اللون الأخضر الفاتح، سريعة التساقط وزهورها عنقودية البيضاء وزرقاء، يغلب عليها اللون البنفسجي، ولعلّ هنا يكمن سرّ تسميتها بـ”الشجرة الحزينة”، وربما لهذا السبب اختارتها “سحر ديليجاني” ضمن عنوان ،وعلى غلاف، روايتها الأولى، المثقلة حكاياتها بالحنين والفقد والآلام: آلام سجينات يفارقن أطفالهن الرضع، آلام عائلات لا تعرف شيئاً عن الأحباب في السجون، وأقارب وجيران يشعرون بألم الفراق عندما يطلق سراح أمهات يسعين إلى إستعادة أطفالهن منهم. آلام كتمان الحقيقة وآلام اكتشافها. آلالم مغادرة الوطن وآلام البقاء فيه أوالعودة إليه. آلام هائلة حاضرة في ثنايا حكايات متصلة في رواية تقول عنها الكاتبة والناقدة الباكستانية الأصل كاميليا شامسي بأن “الحشو فيها بدا لها –ولأول مرة– مبهراً، وأن كاتبتها بدت وكأنها مارست جهداً كبيراً لكي تجد اللغة والبناء، المناسبين، لسرد جملة من الوقائع الرهيبة ” (١).
ليست تأريخاً ولا سيرة حياة“أطفال شجرة الجاكَراندا” رواية مثقلة أيضاً بالتاريخ، لكنها ليست تأريخاً. تحيلك الرواية، ومن خلال شخصياتها وحكاياتها المتشابكة، إلى سلسلة من الوقائع والأحداث التي جرت في إيران. بعض تلك الأحداث معروف بشكلٍ أو بآخر، والبعض الآخر غير معروف أو تحيط به دوائر السرية والكتمان و”المسكوت عنه”. يمكنك، وأنت تقرأ، استحضار وقائع ما جرى في إيران نهاية السبعينات من ثورة أطاحت بنظام الشاه وجاءت بنظامٍ جديد. ومع تتابع الفصول وتدفق السرد تجد نفسك على مقربة من الحرب الإيرانية–العراقية، ووسط حكايات عن اعتقالات جماعية لنشطاء سياسيين شاركوا في الثورة ثم سرعان ما أعتبرهم النظام أعداءً لها، نظراً لانتماءاتهم السياسية المغايرة لانتماءات النظام الجديد والمعارضة لسياساته. ومع استمرار القراءة تصل إلى عام ١٩٨٨، في “الصيف الدامي” الحاضر بقوة في الرواية باعتباره صيف الإعدامات الجماعية لآلاف من السجناء السياسيين (٢). ومع اقتراب النهاية تعيش المظاهرات الصاخبة التي شهدتها مدن طهران، أصفهان، وشيراز، للإصلاحيين المحتجين على نتائج إنتخابات الرئاسة في يونيو/حزيران عام ٢٠٠٩، والتي إنتهت بفوز أحمدي نجاد (الرئيس السابق) بولاية ثانية، وبمواجهات عنيفة مع المتظاهرين، المتشككين في نزاهة الإنتخابات، أسفرت عن إعتقالات وقتلى وجرحى.
لم تكن سحر ديليجاني شاهدة عيان، وخاصة على أحداث نهايات السبعينات وأيام الثمانينات. لكن والديها كانا من النشطاء السياسيين الذين عرفوا الطريق إلى سجن إيفن، حيث ولدتها أمها، وأطلق سراحهما قبل سنوات من حملة إعدامات صيف ١٩٨٨. عمها أيضاً كان من النشطاء السياسيين وكان في سجن إيفن و لم يطلق سراحه وكان من بين ضحايا الإعدامات.
في بداية الرواية نرى “الأم” حاضرة، منذ الفصل الأول، في شخصية السجينة السياسية “آذار” التي تضع مولودها في سجن إيفن، وتدرك أن طفلها سرعان ما سينتزع من أحضانها ويؤخذ بعيداً عنها. في الفصل الأول تكثر أسماء السجينات وتزدحم بصورة مربكة للقارىء الذي سرعان ما يدرك القصد من وراء كثرة الأسماء عندما يكتشف، وعبر ٢٨٨ صفحة من القطع المتوسط، أن وراء كل اسم حكاية لها دلالاتها الخاصة اللافتة إما بشكل مباشر يتعلق بهذه السجينة أو تلك، أو بشكل غير مباشر، من خلال أطفال السجينات السياسيات، الذين ولدوا داخل السجن، أو خارجه.
الحب والفقد والحنينتبدأ الأحداث تتصاعد، في الفصل الأول، من خلال علاقات متشابكة لثلاث سجينات (شخصيات رئيسية): آذار، إضافة إلى “فيروزا” المعروف عنها أنها أدلت بمعلومات ما، فحصلت على “امتيازات” داخل السجن، و”باريسا” التي لها طفل واحد يكبر بعيداً عنها خارج السجن، وحامل في طفلها الثاني. ومن خلال تلك الشخصيات الرئيسية يتدفق السرد راوياً حكايات كثيرة متشابكة عن الأطفال والأقرباء والأزواج والزوجات، عن الأباء والأمهات، عن الأحلام و”الكوابيس”، وعن الأمال*، عن ضوء الظهيرة الذي بدأ يتلاشى، والهواء المخصب برائحة أزهار شجرة الجاكَراندا المتساقطة على الأرض، زهرة وراء زهرة، والغراب يحوم عبرَ الفناء وكأنه يبحث عن شىءٍ فضيّ يسرقه، و”ليلى” تدخل إلى حجرتها حاملة سلة ملابس بين ذراعيها وقد تحرر شعرها من الحجاب وهي تجلس واضعةً سلتها على الأرض وتبدأ في طيّ قمصانها الصغيرة وسراولها وجواربها، وتستعيد ذكريات ثلاث سنوات مضت عندما كانت تعرف طريقها جيداً إلى مصنع الملابس حيث كانت تعمل في تعليب ملاءات وبطانيات في أكياس من البلاستيك لإرسالها إلى المستشفيات الميدانية على خطوط جبهة الحرب الإيرانية–العراقية، وتعلم أنه لم يعد في تلك المستشفيات أماكن لمزيد من الجرحى.
* عن زميلات “ليلى”، وقد كن في مثل عمرها أو أكبر منها. ومن بينهن زوجات وأمهات وجدن أنفسهن بين ليلة وضحاها، ملزمات بالعمل لإعالة أسرهن في وجود أزواجهن على جبهات القتال. نساء رقيقات تملأهن الفضيلة والمعاناة، وبعضهن جاء حاملاً الأطفال الرضع، وتركهن أسفل الطاولة التي تعلوها ماكينات الحياكة.
* عن “باريسا” وشقيقتها “سيمين” وتلك الحوارات الساخنة الصاخبة، التي كانت لاتتوقف بينهما، بمشاركة من زوجيهما، وهم يجهزون المنشورات التي سيلصقونها على الجدران، ويعقدون الإجتماعات السرية ويقرؤون الكتب المحظورة ويشاهدون نشرات الأخبار ويسجلون كم مرة ذكر فيها اسم المرشد الأعلى مقروناً بكل شىء. وقد كان ذلك قبل اعتقالهم.
* وعن “مريم” زوجة السجين الذي أعدم مع من أعدموا، وهي تتلقى إخطاراً للتوجه إلى السجن من أجل إستلام متعلقات زوجها. لم يسمحوا لها برؤية جثمانه، ولا بأن تقيم مراسم دفنٍ أو عزاء، أو حتى معرفة أين دفن. وخارج السجن تكتشف “مريم” أن المتعلقات التي سلمت إليها لم تكن لزوجها.
نسج خيال للتاريخ
تستند سحر ديليجاني في رسم شخصية السجين الذي أعدم، وزوجته، إلى ما علمته عن عمها، وعندما نصل في الرواية إلى الحكايات المتعلقة بالأجيال الجديدة لـ”أطفال شجرة الجاكَراندا”، نكاد نلمح الراوية، مجسدة في شخصية ”نِدا”، الطفلة التي ولدتها “آذار” داخل سجن إيفن في صيف عام ١٩٨٣، وقد أصبحت شابة محملة بالذكريات والوقائع الإيرانية، لكنها غادرت إيران وتقيم (مثل الراوية) في مدينة تورين، في أيطاليا التي أصبحت موطناً لها، حيث تلتقي هناك، وداخل مقهى، مع الشاب الإيراني “رضا”، وهو أيضاً من أبناء الجيل الثاني للسجناء والسجينات من النشطاء السياسيين، وقد وصل لتوه من إيران التي لم يغادرها إلاّ في خريف عام ٢٠٠٩، في أعقاب “الثورة الخضراء” التي شارك فيها(٣).
لقاء مقهى تورين بين “نِدا” و”رضا” هو لقاء بين إثنين من أبناء جيلٍ واحد، أحدهما هاجر، وظلت إيران باقية حية معاشة عن بعد، والثاني ظلّ في الوطن يعيش نبضه وأحواله لحظةً بلحظة. عندما يحكي لها عن ما جرى في “الثورة الخضراء” وكيف كانت قسوة النظام صادمة له، تنتاب “نِدا” رعشةٌ مشوبة بالحسد “لأن محدثها كان هناك وشارك في لحظة تحول تاريخي. وبدلاً من الشعور بالعرفان لوجودها في مكان آمن، تجد نفسها حزينة وأنها لا تملك أن تروي قصة أو ذكرى أكبر أو أصدق من تلك التي راح “رضا” يرويها وهي صامتة تنصت وتتألم.
لعلّ في هذه النهاية، الذروة، تكمن الدوافع التي جعلت “سحر ديليجاني” تكتب روايتها التي يبدو أنها عاشت، وتعلمت لكي تكتبها. “سحر” تتداخل مع “نِدا”. وكانت سحر قد عثرت في يومٍ من الأيام على “أسورة” كان والدها قد صنعها لها من الأحجار وهو داخل سجن إيفن. وعندما سألته ما الحكاية أجابها وروى لها عن نشاطه، ويومها كتبت قصة قصيرة عن “أسورة الأحجار الصغيرة”، ونشرت في مجلة أدبية. ثم راحت سحر تسأل عن حكايات العم واًصدقاء الأب وصديقات الأم. أم “سحر” ليست بعيدة، بطبيعة الحال، عن “آذار”، أم “نِدا”. وفي يومٍ من الأيام، وبعد أن قررت “سحر” أن تكتب روايتها، كانت بينها وبين والدتها الكثير من الجلسات. في البداية كانت الأم متحفظة، وكانت سحر تسمع وتسجل ملاحظاتها، ثم تعود وتسأل عن مزيد من التفاصيل.
وعندما إنتهت “سحر” من كتابة فصل من روايتها، مستندة إلى ما روته الأم، ترجمته إلى الفارسية وقرأته على أمها التي أحبته وشعرت براحةٍ لم تشعرْ بها من قبل، وكأنها تخلصت من كابوسٍ كان قابعاً بين جنباتها، قالت: عندي المزيد من القصص أرويها لك. زاد البوحُ وكثرت التفاصيل.
لا يزال والد “سحر” ووالدتها وشقيقها الأكبر يعيشون في كاليفورنيا، وهي تعيش في تورين، المدينة الإيطالية مع زوجها. تشعر وكأن ولادتها داخل السجن وسامُ شرف، وتشعر بأن روايتها قد جعلتها أكثرَ قرباً لأسرتها ومعرفة بها وساعدتها على أن تفهم أكثر(٤).
وتبقى “أطفال شجرة الجاكَراندا” روايةً ليست تأريخاً أو”سيرة حياة عائلية”، بل مجموعة من النصوص المتشابكة، المعتمدة على وقائعٍ تاريخية نجحت سحر ديليجاني في تضفيرها وسردها في صياغاتٍ إبداعية لخيالِ كاتبةٍ وجدت أن أفضلَ ما تبدعه هو قصصٌ يجعل الأجيالَ على درايةٍ بما قد كان. ولا تنسى ما جرى، على أمل أن لا يعيد التاريخ نفسه.
هوامش(١) صحيفة الغارديان –لندن– عدد الجمعة ١٢ يوليو/تموز ٢٠١٣.
(٢) تقدر منظمة العفو الدولية “أمنستي” بأن أعداد من أعدموا تتراوح ما بين ٤٥٠٠ إلى ٥٠٠٠ سجيناً سياسياً، لكن ديليجاني تعتقد أن العدد ربما يصل إلى ١٢ ألف سجين.
(٣) التعبير الذي يطلق على مظاهرات الإصلاحيين، في أعقاب إعلان نتائج الإنتخابات الرئاسية في صيف ٢٠٠٩.
(٤) حوار مع الكاتبة أجرته الناقدة البريطانية “لورا بارنت” —صحيفة الغارديان بتاريخ ٦ يوليو/تموز ٢٠١٣
Share this:- More